إن المتطلّع في واقع كثير من الناس، وَسْط أجواء المتغيرات المتكاثرة، والركام الهائل من المصائب والبلايا، والنوازل والرزايا، ليلحظ بوضوح أن كثيرًا من النفوس المسلمة توّاقة إلى تحصيل ما يُثبت قلوبها، وإلى النهل مما تطفئ به ظمأها، وتسقي به زرعها، وتجلو به صدأها، فهي أحوج ما تكون إلى احتضان ضيف كريم، يحمل في جنباته مادة النماء، فهي مشرئبّة لحلوله ..
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله سبحانه؛ إذ بها تشرف النفس، ويثقل الميزان، ويعلو القدر، ويعظم الجاه، ويحصل القرب من الباري جلّ شأنه، فما خاب من اكتنفها، ولا أفلح من جفاها، ولا جَرَم عباد الله؛ فإن العاقبة للتقوى: (فَتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الأَلْبَـابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:100].
أيها الناس: إن المتطلّع في واقع كثير من الناس، وَسْط أجواء المتغيرات المتكاثرة، والركام الهائل من المصائب والبلايا، والنوازل والرزايا، ليلحظ بوضوح أن كثيرًا من النفوس المسلمة توّاقة إلى تحصيل ما يُثبت قلوبها، وإلى النهل مما تطفئ به ظمأها، وتسقي به زرعها، وتجلو به صدأها، فهي أحوج ما تكون إلى احتضان ضيف كريم، يحمل في جنباته مادة النماء، فهي مشرئبّة لحلوله، يقطّعها التلهّف إلى أن تطرح همومها وكدَّها وكدحها عند أول عتبة من أعتابه، بعد أن أنهكت قواها حلقات أحداث مترادفة، بعضها يموج في بعض، حتى غلت مراجلها، واشتدّ لهب أَتونها، فما برحت تأكل الأخضر واليابس، تفجع القلوب، وتعكّر الصفو، وتصطفق وسط زوابعها العقول والأفهام، فلأجل هذا كله كان الناس بعامة أحوج ما يكونون إلى حلول شهر الصيام والقيام، شهر الراحة النفسية والسعود الروحي، شهر الركوع والسجود، شهر ضياء المساجد، شهر الذكر والمحامد، شهر الطمأنينة ومحاسبة النفس، وإيقاظ الضمير، والتخلص من النزعات الذاتية، والملذات الآنية، في شهوات البطون والفروج، والعقول والأفئدة، والتي شرع الصيام لأجل تضييق مجاريها في النفوس، وكونه فرصة كل تائب، وعبرة كل آيب: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].
أيها المسلمون: شهر رمضان المبارك هو شهر القرآن، القرآن الذي لا تنطفئ مصابيحه، والسراج الذي لا يخبو توقده، والمنهاج الذي لا يضل ناهجه، والعزّ الذي لا يهزم أنصاره، القرآن -عباد الله- هو في الحقيقة بمثابة الروح للجسد، والنور للهداية، فمن لم يقرأ القرآن، ولم يعمل به فما هو بحيّ، وإن تكلم أو عمل أو غدا أو راح، بل هو ميت الأحياء، ومن لم يعمل به ضل وما اهتدى، وإن طار في السماء أو غاص في الماء: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَـاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا) [الأنعام:122].
إن الإنسان بلا قرآن كالحياة بلا ماء ولا هواء، بل إن الإفلاس متحقق في حسّه ونفسه، ذلك أن القرآن هو الدواء والشفاء: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء وَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) [فصلت:44].
إن مما لا شك فيه -أيها المسلمون- أن صلة الكثيرين بكتاب ربهم يكتنفها شيء من الهجران والعقوق، سواء في تلاوته أم في العمل به، بل قد لا نبعد النجعة لو قلنا: إن علل الأمم السابقة قد تسللت إلى أمة الإسلام لِواذًا وهي لا تشعر، ألا تقرؤون -يا رعاكم الله- قول الباري -جل وعلا-: (وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَـابَ إِلاَّ أَمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) [البقرة:78].
يقول المفسرون: "أي لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة وترتيلاً، بحيث لا يجاوز حناجرهم وتراقيهم"، كل ذلك بسبب الغياب القلبي، والحجر الروحي عن تدبر القرآن، بل إن البعض على قلوب أقفالها: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَـافاً كَثِيراً) [النساء:82]، أفلا يتدبرون القرآن إذًا.
إن من أسباب عدم التدبر هو البعد عن اكتشاف سنن الله في الأنفس والآفاق، وحسن تسخيرها والتحرر غير المبعّض من تقديس الأفهام المغلوطة، والتأويلات المآربية المخلوطة، والتي انحدرت إلى كثير من أوساط الناس، عبر لوثات علل، وأفهام يعذبها شعور طاغ من حبّ الدنيا وكراهية الموت، وما عند الله خير وأبقى للذين هم لربهم يرهبون.
روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن زياد بن لبيد الأنصاري -رضي الله عنه- قال: ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا فقال: "وذلك عند ذهاب العلم"، قلنا: يا رسول الله: كيف يذهب العلم ونحن قرأنا القرآن، ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم؟!! فقال: "ثكلتك أمك يا ابن لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة، أوَليس هذه اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء؟!".
إن المرء المسلم لتأخذ الدهشة بلبه كل مأخذ، حين يرى مواقف كثير من المسلمين مع كتاب ربهم، وقد أحاط بهم الظلام، وادلهمت عليهم الخطوب من كل حدب وصوب، ثم هم يتخبطون خبط العشراء، أفْلَسَت النظم، وتدهورت القوميات، وهشت العولميات، فيا لله العجب كيف يكون النور بين أيدينا ثم نحن نلحق بركاب الأمم من غيرنا؟!! تتهاوى بنا الريح في كل اتجاه لا نلوي على شيء.
لقد عاش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة وستين عامًا، ولقد كنا نسمع كثيرًا أن كبر السن، وصروف الحياة المتقلبة قد تشيب منها مفارق الإنسان، فما ظنكم بمن تمر به هذه كلها، واحدة تلو الأخرى، ثم هو ينسب المشيب الذي فيه إلى آيات من كتاب ربه كان يرددها، ومعانٍ يتأولها ويتدبرها، روى الترمذي والحاكم أن أبا بكر -رضي الله عنه- سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: ما شيبك؟! قال: "شيبتني هود والواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت".
إن رمضان بهذه الإطلالة المباركة، ليعدّ فرصة كبرى ومنحة عظمى للمرء المسلم، في أن يطهر نفسه بالنهار، لكي يعدّها لتلقي هدايات القرآن في قيام الليل: (إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزمل:6]، وناشئة الليل هي ساعاته وأوقاته، فهي أجمع على التلاوة من قيام النهار؛ لأنه وقت انتشار الناس، ولغط الأصوات، فكأن الصيام في النهار تخلية، والقيام بالقرآن في الليل تحلية.
عباد الله: شهر رمضان المبارك، شهر رحب وميدان فسيح، يوطد المرء نفسه من خلاله على أن يحيي ليله، وعلى أن لا يلجأ في حوائجه إلا إلى قاضيها سبحانه؛ إذ لا ملجأ من الله إلا إليه، وهو يقضي ولا يقضى عليه.
فثلث الليل الآخر هو وقت التنزل الإلهي، على ما يليق بجلاله وعظمته، إلى سماء الدنيا؛ إذ يقول: "هل من سائل فأعطيه؟! هل من داع فأستجيب له؟! هل من مستغفر فأغفر له؟!".
تُرى، هل فكّر كل واحد منا في استثمار هذا الوقت العظيم الذي هو من آكد مظان إجابة الدعاء؟! تُرى، ما هي أحوال الناس مع ثلث الليل الآخر؟! بل كم من شاكٍ لنفسه قد غاب عنه هذا الوقت المبارك، كم من مكروب غلبته عينه عن حاجته ومقتضاه، كم من مكلوم لم يفقه دواءه وسر شفائه، كم وكم وكم. ألا إن كثيرًا من النفوس في سبات عميق، إنها لا تكسل في أن تجوب الأرض شمالها وجنوبها، وشرقها وغربها، باحثة عن ملجأ للشكوى، أو فرصة سانحة لعرض الهموم والغموم، على من تقصده من بني البشر، غافلة غير آبهة عن الالتجاء إلى كاشف الغم، وفارج الهم، ومنفس الكرب: (بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ) [المؤمنون:88]، (يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء) [النمل:62]، (مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً) [نوح:13، 14].
روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام يوم القيامة، ويفتح لها أبواب السماء ويقول: بعزتي لأنصرنَّك ولو بعد حين".
غير أن ثمة أمرًا مهمًّا -عباد الله-، وهو أن كثيرًا ممن يرفعون أكف الضراعة بالدعاء إلى الباري -جل شأنه- قد يستبطئون الإجابة، ولربما أصابهم شيء من اليأس والقنوط: (وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ) [الحجر:56].
بيد أن هناك خللاً ما، هو السر الكامن في منع إجابة الدعاء، كأن يكون المرء ممن يستعجلون الدعاء، ويتحسسون الإجابة على تململ ومضض، وهذا مانع أساسي من الإجابة؛ لقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يستجيب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت ربي فلم يستجب لي". رواه البخاري ومسلم.
ولربما لم يستجب الدعاء لما فيه من الإثم، أو قطيعةٍ للرحم، أو أن يكون الدعاء المنبثق من شفاه الداعين غير مقترن بالقلب اقتران الماء والهواء بالروح؛ لأن اللسان ترجمان القلب وبريده، والقلب خزانةٌ مستحفظةٌ الخواطرَ والأسرار، ومساربَ النفس الكامنة، فالدعاء باللسان والقلبُ غافل لاهٍ إنما هو قليل الجدوى أو عديمها، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله لا يقبل الدعاء من قلب لاهٍ". رواه الحاكم والترمذي وحسنه. فالقلب إذًا لا يخلو من الالتفات إلى شهوات الدنيا الصارفة، ومن المعلوم بداهة أن المتلفّت لا يصل سريعًا.
فالله اللهَ -أيها المسلمون- في الدعاء، فهو العبادة ومخها، وهو السهام النافذة لذوي العجز وقلة الحيلة، ولا يحقرن أحدكم الحوائج مهما قلت أو كثرت، فإن الله أكثر، وقد قال سبحانه: (وَقَالَ رَبُّكُـمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دخِرِينَ) [غافر:60].
وبعد -يا رعاكم الله-، نقول لذوي المصائب والفاقات، والهموم والمقلقات: خذوا هذا المثل عبرة وسلوانًا، يتجلى من خلالهما أثر الدعاء في حياة المرء، وأنه لا غنى له عنه ما دام فيه عرق ينبض؛ إذ هو الدواء إذا استفحل الداء، وهو البرد إذا اشتد الحر.
دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد ذات يوم فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: "يا أبا أمامة: ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟!"، قال: هموم لزمتني، وديون يا رسول الله، قال: "أفلا أعلمك كلامًا إذا قلته أذهب الله همك، وقضى عنك دينك؟!"، قال: بلى يا رسول الله، قال: "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهَمّ والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال"، قال أبو أمامة: ففعلت ذلك فأذهب الله همي، وقضى عني ديني. رواه أبو داود.
وعند أحمد والترمذي أن عليًّا -رضي الله عنه- جاءه مكاتَب يشكو إليه دينًا عليه، فقال علي -رضي الله عنه-: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لو كان عليك مثل جبلٍ دينًا أداه الله عنك؟! قل: "اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك"، قال الترمذي: حديث حسن.
فاللهم إنا نعوذ بك من الهَمّ والحزن، ونعوذ بك من العجز والكسل، ونعوذ بك من الجبن والبخل، ونعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، فإن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي الصالحين، (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [غافر:3]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلقد أظلكم –أيها المسلمون– شهر كريم، يحمل في طياته تهيئة النفس على تحمّل الجوع والعطش، ترى الطعام بين ناظريك، تشتهيه نفسك، وتصل إليه يدك، ولكنك لا تستطيع أن تأكله، ويشعل الظمأ جوفك، والماء من حولك، فلا تقدر على أن تنهل منه، ويأخذ النعاس بلبِّك، ويداعب النوم جفنيك، ويأتي رمضان يوقظك لصلاتك وسحورك.
إنها -ولا شك- حلقات الصبر والمصابرة، التي قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الصوم نصف الصبر". رواه الترمذي.
شهر رمضان –عباد الله– شهر الجود والإنفاق، شهر النفوس السخية، والأكف الندية، شهر يسعف فيه المنكوبون، ويرتاح فيه المتعبون، فليكن للمسلم فيه السهم الراجح، والقدح المعلّى، فلا يتردَّدنَّ في كفكفة دموع المعوزين واليتامى والأرامل، من أهل بلده ومجتمعه، ولا يشحَّنّ عن سد مسغبتهم، وتجفيف فاقتهم، وحذار من الشح والبخل حذار، فإنهما معرّة مكشوفة السوأة، لا تخفى على الناس فتوقها، ناهيكم عن كون النبي -صلى الله عليه وسلم- استعاذ ربه منهما، بل إن الجود والكرم كانا لزيمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طيلة حياته، في حين إنه يتضاعف في رمضان، حتى يكون كالريح المرسلة، وفي الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- ما سئل شيئًا فقال: لا، إضافة إلى أن نتاج هذا التحضيض غير قاصر على سعادة ذوي المسكنة وحدهم، بل يزيد أمانُه حتى إلى الباذلين أنفسهم، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق، فلا ينفق إلا صبغت على جلده حتى تخفي بنانه، وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها ولا تتسع". رواه البخاري ومسلم.
والمعنى هنا ظاهر –عباد الله–، فإن الجواد السخي إذا هَمَّ بالصدقة انشرح لها صدره، وطابت بها نفسه، وتاقت إلى المثوبة، فتوسعت في الإنفاق، ولا يضيره الحديد، بل هو يتسع معه حيثما اتسع، ولا غرو في ذلك، فإن الجواهر ولو كانت تحت التراب فهي جواهر، والأسد في قفص الحديد أسد ولا شك، بيد أن البخيل إذا حدّث نفسه بالصدقة شحت نفسه، وضاق صدره، وانقبضت يداه، وأحسّ كأنما يعطي من عمره وفؤاده، حتى يعيش في نطاق ضيق، لا يرى فيه إلا نفسه، غير مكترث بالمساكين، عن اليمين وعن الشمال عزين، مثل هذا –ولا شك– قد وضع الإصر والأغلال في يده، وجعلها مغلولة إلى عنقه: (قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنْسَـانُ قَتُورًا) [الإسراء:100].
ولكن ليس شيء أشد على الشيطان، وأبطل لكيده، وأدحر لوسواسه من الصدقة الطيبة: (لشَّيْطَـانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِلْفَحْشَاء وَللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَللَّهُ وسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:268].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت...