نبيلة الموريسكية المتحررة
الموريسكيون هم المسلمون الذين ظلوا في اسبانيا تحت الحكم المسيحي بعد سقوط الأندلس، وخيروا بين اعتناق المسيحية أو ترك اسبانيا، وسمحت الدولة الإسبانية بمغادرتهم إلى شمال إفريقيا بين 1609 و 1614، ورحل قرابة مليون منهم إلى المغرب ومنهم أجداد نبيلة بن كيران الذين رحلوا إلى مدينة مليلية وهناك ولد أبواها، حيث تلقى والدها أحمد تعليما قانونيا ليلتحق بسلك المحاماة، ثم ما لبث أن انتقل رفقة أسرته إلى مدينة تطوان التي أصبحت حاضنة للمطرودين من جنة الأندلس، هناك مارس مهنته مترافعا باسم المتقاضين قرابة عقد من الزمن، وبين مرتفعات جبل "درسة" ولدت نبيلة الابنة الخامسة وخاتمة عنقود أحمد بن كيران، حينها كانت ظروف المغرب قد شهدت تغييرا جذريا إبان الاستقلال وأصبح بالإمكان الاستعانة برجالات المغرب الذين تلقوا تعليما عاليا في تدبير شؤون الدولة، وعين أحمد بن كيران المحامي بتطوان في منصب قاضي بالمحكمة العسكرية بالرباط
انتقلت الأسرة المتكونة من سبعة أفراد للاستقرار بحي السويسي الذي كانت تحيط به حقول القمح من كل جانب، حينها كانت نبيلة فتاة في ريعان شبابها تعيش حياة موريسكية متحررة تتكلم الإسبانية بطلاقة، تعزف على البيانو وتتلقى دروسا في الرقص الكلاسيكي إلى جانب مقرر دراسي حافل في مدارس البعثة الفرنسية بـ "ليسي ديكارت" بحي الطائرات، وبدت فتاة صغيرة فلامانكية أو فرانكفونية بتنورتها القصيرة وقصة شعرها التي تشبه الغجر في مملكة اشبيلية.
راقصة الفلامينكو
تعلمت رقصة "الفلامينكو" الأولى على إيقاع "باكو دي ليسيا" عازف الغيتار المشهور، وتميزت الرقصة بالحزن والكآبة وكانت تعبيرا عن الظلم والحزن الذي لحق بالموريسكيين، ثم اشتد ولعها بهذا الفن الذي جاء تعبيرا عن مرحلة اضطهاد تعرض له مسلمو الأندلس، بواسطة غناء "الكانتي" ورقص "الباليه" على ايقاع الغيتار، فحمولة نبيلة موريسكية، تلقت نبيلة المبادئ الأولى لحياتها وسط جو أندلسي بمدينة مليلية ثم تطوان على سفر الاضطهاد والتهجير، وعبرت من خلال الكلمات وعاطفة المغني والجسد على حبل الكبرياء وحساسية اللحن، لقد كان في الموضوع إيلام شخصي لعائلة مهاجرة من جنة الأندلس إلى شمال إفريقيا، لكنها حافظت على التقاليد نفسها برقيها الأندلسي الاسباني وبثقافتها التي نسجها حب المطالعة والنهم لأعمال مشاهير الكتاب العالميين، كما استمدت أصول تعبيراتها الراقصة على إيقاعات المغني الرومانسي وكاتب الكلمات اليوناني الأصل "جورج مستاكي".
شبت نبيلة في بيئة متحررة، تلقت دراسة فرانكفونية ولم تتعلم العربية إلا لمَامًا، ووجدت في وسط أسرتها إخوة وأبوين استعملوا الاسبانية كلغة مفضلة للتواصل، وتلقت تعبيرا جسديا برقصة الفلامينكو المتمردة، كما استمدت من أساتذتها لغة "موليير"، فكانت تعبيرا عن مرحلتها وحياتها تلك، تعيش متحررة منطلقة باحثة عن المعنى، وفي ظل كل ذلك صادفت حبا على قارعة الطريق، أخذ بلجام تحررها ووضعها في جسم القضية، حيث كان اليسار واليمين والإسلاميون يتطاحنون في حرم الجامعات لرسم معالم الطريق الملتبسة، ووجدت نفسها مندفعة وراء قلبها لترتمي في أحضان الشبيبة الإسلامية وهي فتاة ترعى ضفائرها، فما الذي حول مسار امرأة أكدت مصادرنا أنها منفتحة لتحيى وسط رتل الجماعة المحافظة وأطروحاتها التي انقسمت بين وفد غادر الوطن وآخرون أنهوا المشوار في دروب متباينة انعطفت إليها الحركة الإسلامية؟
نبيلة وبن كيران: الحب المستحيل
انفتح عبد الإله بن كيران في مرحلته الثانوية على التلوينات السياسية القوية، فانخرط مبكرا في شبيبة حزب الاستقلال، ثم سرعان ما غادرها إلى الشبيبة الاتحادية ونشر مقاله الأول بجريدة "المحرر" التي كان يديرها محمد اليازغي، وانخرط في تنظيمات الحزب.
وفي منتصف السبعينيات حدث تحول كبير في حياة الشاب ابن حي العكاري الشعبي عندما التحق بالشبيبة الإسلامية لعبد الكريم مطيع، وهو تنظيم سري نادى بالتغيير الجدري ودخل بعض أعضائه المتشددين في حرب كلامية مع رموز اليسار، وتحول ذلك إلى صراع دموي، حيث انخرط عبد الإله في صفوف الشبيبة شهورا بعد اغتيال الزعيم الاتحادي عمر بن جلون، وهو التاريخ الذي كان موعدا غير متوقع بينه وبين نبيلة الشابة البورجوازية المتحررة، حدث ذلك حسب رواية مصدر مقرب في مناسبة عرس عائلي استدعيت له أسرة بن كيران بحي السويسي وحضره الشاب عبد الإله، وهي المناسبة التي قلبت كيان رجل في العشرين من عمره حديث العهد بتنظيم مطيع الراديكالي، شاهد نبيلة في قفطان العرس وبجمالها الأخاذ، فاقترب منها ورمى في طريقها ورود إعجابه وحبه، واستمرت لقاءاتهما بعد ذلك إلى أن شاعت علاقتهما وسط العائلة، فتقدم لخطبتها، لكن والد نبيلة القاضي أحمد لم يوافق حينها على الزواج، بدعوى أن الشاب عبد الإله مازال طالبا في الجامعة ولن يستطيع تحمل أعباء بناء أسرة، ولم يستبعد مصدر مقرب أن يكون سبب الرفض راجع أساسا إلى فروق المستوى المعيشي بين العائلتين، وإلى توصل القاضي بأخبار عن طريق أحد أفراد العائلة الذي كان إطارا رفيعا في جهاز الأمن" بأن عبد الإله ينتمي لتنظيم الشبيبة الإسلامية السري، فتخوف أن تتحول حياة ابنته إلى رحلة شقاء مع رجل ملاحق من طرف أجهزة السلطة، لكن الحب الذي جمع القلبين تحدى كل تلك التحذيرات واستمرت لقاءاتهما زهاء أربع سنوات تعرفت خلالها نبيلة على رفاق بن كيران، وفي المقابل دخل هذا الأخير عن طريق معارف خطيبته إلى صفوة البورجوازية الرباطية .
نبيلة تتقن طهي طاجين الكرعين الذي يعشقه بنكيران
لقد كان أصدقاء بنكيران يقصدون بيته وهم متأكدون أنهم سيتذوقون أكلات مغربية أصيلة كالكسكس والرفيسة، وأكلات غربية قادمة من المطبخ الإسباني كأكلة "البايلة" ، كما برعت في تحضير طاجين الكرعين الذي طالما افتتن به الدكتور الخطيب، بل ويعد من بين الأكلات المفضلة لرئيس الحكومة عبد الإله بنكيران وفق ما ذكره ذات المصدر.
نبيلة عاشقة ناس الغيوان
رغم كونها لم ترتد الجامعة ولا تقلبت في صفوف تنظميات اليمين واليسار، إلا أن الشابة نبيلة تشبعت بثقافة فرنسية أصيلة، أثثها حرصها الكبير على متابعة الاهتمام بكتب ومؤلفين عشقت نصوصهم ووجدت فيها الملاذ الآمن لذات متمردة عاشقة للحرية والاختلاف، وهكذا أحبت نبيلة مؤلفات الكاتب الفرنسي ألفريد دو فيني، وهو من الرواد الأوائل للحركة الرومانسية الذي اشتهر شعره بالحماسة والوطنية، وكانت من المواظبين على قراءة أشعار أرتور رامبو الشاعر المتمرد على الأخلاق والعادات، وصاحب "أزهار الشر".
لم يفت نبيلة الشابة في بحثها عن إيقاعات أكثر حرية وأكثر صدقا، أن تهيم في حب المجموعة الغنائية ناس الغيوان وتذوب في أصوات انتفضت ضد واقع اجتماعي هش، وقد تحدث مصدر مقرب عن مدى إعجاب هذه الأخيرة بصوت الفنان محمد الدرهم.
قصة حجاب نبيلة
في سنة 1979 ودعت نبيلة حياتها المتحررة وارتدت الحجاب الأنيق غير المتكلف، ولم تكن يوما من المهووسات بمتابعة جديد عالم الموضة، بل فقط تهتم بارتداء ما يناسب شخصيتها بعيدا عن التكلف، وهكذا يعكس حجابها شخصيتها البسيطة والمثقفة وربة البيت أيضا التي أصبحت مهتمة بشؤون بيتها وزوجها، وتسعى لتوفير ظروف الاستقبال الجيد وحسن الضيافة لأصدقاء زوجها وخاصة أعضاء الشبيبة الإسلامية، حيث كثرت الاجتماعات السرية في فيلا "جان جوريس" وأصبح هذا التنظيم ملاحقا بعد أن وجهت إليه اتهامات كثيرة ولعل أخطرها هو اتهام إخوان مطيع بالتورط في دم النقابي الاتحادي عمر بن جلون الذي اغتيل في سنة 1975، وتمت ملاحقة رموز الشبيبة الإسلامية، فاعتقل عبد الإله بن كيران سنة 1980، وترك زوجته حاملا بمولودها الأول، ولما غادر السجن كانت قناعته قد استوت بضرورة القطيعة مع الشبيبة الإسلامية، حيث كان مطيع قد صدر في حقه حكم الإعدام فغادر المغرب، وبعد إطلاق سراحه تبرأ بن كيران من تنظيم مطيع وأعلن القطيعة مع أفكاره، ثم ما لبث أن غادر أسوار المدرسة العليا للأساتذة للأبد عن طواعية..